الدكتور صفد الشمري – خبير التواصل الرقمي
تمكنت الأوعية الرقميَّة من تشكيل مجال جديد ومؤثر للنقاش في القضايا الفاعلة بالعراق، على الرغم من عدم بلوغ الممارسات الإلكترونية فيه مرحلة التنظيم بعد، وصارت تهيئ جمهور المستخدمين من الشرائح الاجتماعية والعمرية المختلفة للتعاطي مع القضايا الحيوية الرئيسة، وأن تعد لمزاج عام إزاءها عبر محتوياتها المتعددة، لدعم مسار معين، أو الوقوف بالضد منه، على وفق الأهداف المطلوب تحقيقها من صناع تلك المحتويات، عن طريق الزج بعناصر الاستمالة والترغيب، أو حتى الترهيب بإثارة المخاوف والنعرات.
مثل هذا التأثير يجري تكريسه في أكثر الممارسات الديمقراطية أهمية على مستوى العالم، ممثلة بالانتخابات، حين تُستخدم الأوعية الرقمية في توجيه البيئات السياسية وصولاً إلى معطيات بعينها، على الرغم من تقدم مستويات التنظيم الرقمي وضبط أدواته بتشريعات وتقنيات متقدمة في العديد من المجتمعات، غير ان فرص التحايل الرقمي بالانتخابات تبقى متوفرة بشكل كبير.
هذا كله، أسهم في إنزال أوعيتنا الرقمية المحلية بمحل الريبة من وجهة نظر ملايين المستخدمين في العراق، الأمر الذي يكون للمعنيين في البلاد مدعاة التساؤل: هل يمكن للحملات الانتخابية الإلكترونية للانتخابات التشريعية المقبلة، ان تكون فاعلة ومؤثرة لدى الجمهور؟
الحملة الإلكترونية
من حيث المبدأ.. فإنَّ إدارة الحملات الانتخابية الإلكترونية تتمثل بالجهود التي تستثمر الوسائط الرقمية المتعددة لاستهداف الناخب من جموع المستخدمين، وتقوم بصياغة وتطوير رسالة مقنعة تتوافق مع متطلبات البيئة الإلكترونية، ويجري متابعة العمل في تلك الحملات على وفق خطة منطقيَّة، وتكون أية حملة انتخابية، بصرف النظر عن كونها إلكترونية أو تقليدية، تجربة مثيرة بذاتها، ذلك أنَّ أموراً عدة يمكن لها أنْ تحصل أو تتغير في اللحظة، وعبر جميع مراحل الإعداد للعملية الانتخابية، لغاية يوم الاقتراع، وربما حتى بعده في مراحل الفرز والعد، والإعلان عن النتائج، والمصادقة عليها، الأمر الذي يتطلب أنْ تكون إدارة الحملات الإلكترونية غاية في الدقة والتنظيم والمتابعة المستمرة للأحداث والوقائع.
وتتطلب إدارة الحملة الانتخابية الإلكترونية، شأنها شأن باقي الحملات، فهم البيئة السياسية على نحو متكامل، وبما يمكن أنْ يسهم في تطوير ستراتيجية واقعية لتحقيق أعلى قدر ممكن من النجاح، الذي لا تقتصر مقوماته على جانب بذاته، إذ تشير التجارب الدولية الموثّقة إلى أنَّ هناك ثلاثة أنواع من الحملات الانتخابية قد لا تقابل بفرص النجاح يوم الاقتراع، تتمثل الاولى بامتلاك القائمين عليها رسالة مقنعة لإيصالها إلى الناخبين، غير انها لا تحمل فكرة واضحة عن الناخب الذي تريد إقناعه، ومثل هذا النوع من الحملات لا يمتلك زمام المبادرة، وقد يتفاقم وضعها السيئ بمضي الوقت.
أما احتمالات الفشل الأخرى فقد تندرج مع امتلاك الحملة لرسالة محددة ومقنعة ورؤية واضحة ذلك الناخب الذي قد يكون بالإمكان إقناعه، لكنها تفتقد إلى خطة معقولة لما ينبغي عمله من اللحظة الراهنة حتى يوم الاقتراع، وهذا النوع من الحملات يهدر الوقت والمال والطاقات، وهي تقترب من يوم الاقتراع، بينما تكون هناك من تمتلك رسالة جلية وفكرة واضحة عن الناخب، وخطة جيدة حتى يوم الاقتراع، لكنها تعجز عن متابعة العمل فيها، الأمر الذي ينوّه بضرورة متابعة سيران تنفيذ الحملات الانتخابية بشكل مستمر.
القاعدة الذهبيَّة
ويتطلب تصميم الحملة الانتخابية الإلكترونية الناجحة القيام بالأبحاث الميدانية اللازمة للإعداد لها، ووضع ستراتيجيات لأهداف محددة، وتحديد عدد الناخبين المطلوبين لتحقيق الفوز، وتحديث رسالة الحملة، وتطوير خطة الاتصال بالناخبين عبر الأوعية الرقمية، ومن ثم تنفيذ الخطة.
ويوصي دليل الحملات الانتخابية بأنْ تشرع الخطوة الأولى في الحملة بالبحث، ليعرف القائمون عليها من أين ينبغي عليهم أنْ يبدؤوا، ومتى يأخذون في الحسبان الاختلافات والمميزات بين القواعد الذهبيَّة وخصوصية الحالة التي تتعامل معها حملتهم، مع الأخذ في الاعتبار مجموعة من العوامل يستوجب التعاطي معها قبل الاعداد لكتابة خطة الحملة تتجسد في قائمة تساؤلات تكون الإجابة عنها حجر أساس انطلاق الحملة الإلكترونيَّة.
ومن تلك التساؤلات: أي نوع من الانتخابات التي تجري، وما القواعد والقوانين المتبعة فيها، وما هي السمات المميزة للدائرة الانتخابية، وما الصفات المحددة للناخبين في تلك الدائرة، وما هي الأمور التي حدثت في الانتخابات السابقة، وما العوامل الرئيسة المؤثرة في تلك الانتخابات، وما هي مواطن الضعف والقوة للمرشح التي تجري لصالحه الحملة، وما جوانب الضعف والقوة للمنافسين الحيويين كافة.
وتتمثل الخطوة اللاحقة بوضع الأهداف، فبحسب الدراسات المختصة فإنَّ أغلب الحملات الانتخابية تتجاهل إحصاء الأصوات اللازمة لضمان الفوز ضمن قواعد بياناتها، من قبيل إجمالي السكان في الدائرة، وعدد الناخبين منهم، وأعداد المقترعين المحتملين، وما هي نتائج الانتخابات السابقة، بل انَّ بعضاً منها لا يعلم من أين تأتي الأصوات الانتخابية.
ومثل تلك الحالات تتطلب تحديد عدد السكان، وليس الناخبين وحدهم، في الدائرة الانتخابية المستهدفة، وعدد القادرين منهم على الاقتراع في الانتخابات، باستنتاج نسبة المقترعين الذين سيدلون بأصواتهم، وتوقع العدد الصحيح للذين سيدلون بأصواتهم، ومعرفة عدد المرشحين الذين ينافسون على المنصب ذاته، والتركيز على المرشحين المنافسين الذين هم أكثر جدية وقدرة في المنافسة على أرض الواقع.
ولا يمكن تجاوز معطيات نسب أصوات الاقتراع اللازمة لتحقيق الفوز، ونسبة الأصوات التي يتوقع أن يحصل عليها كل مرشح يوم الانتخابات، والعدد الصحيح من أصوات الاقتراع اللازمة لتحقيق هذا الفوز، والوقوف على العدد المتوسط للناخبين في كل أسرة بالدائرة الانتخابية، وإنْ كانوا يميلون إلى التصويت للمرشح نفسه.
وإذا كانوا كذلك، فكم عدد الأسر اللازمة لتحقيق النجاح، ناهيك عن المعلومات المرتبطة بمستوى تأثير الوسائط الرقمية فيهم، وإنْ كانوا يعدونها مصدراً للمعلومات في قراراتهم المهمة، ومنها جديتهم في الاقتراع، ولمن سيدلون بالأصوات؟
إنَّ الانتهاء من مرحلة وضع أهداف الخطة الانتخابية يتطلب العبور إلى مرحلة «استهداف الناخبين» عن بعد، عبر الأوعية الرقمية المتعددة، وعن طريق المحتويات الرقمية الأكثر ملاءمة للمستخدمين في البيئة السياسيَّة، فبعد أنْ يجري تحديد عدد الأصوات المطلوب تحقيقها لفوز المرشح، يبقى معرفة عدد الناخبين المطلوب إقناعهم لتأييد ذاك المرشح ومساندته، وما الذي يجعل مجموعة المستخدمين المستهدفين مختلفين عن غيرهم ممن لن يصوتوا لمرشح الحملة، وتكون مرحلة الاستهداف شديدة الدقة، كونها تتطلب ضبط إنفاق الموارد، والتي تشمل الزمن والمال والعنصر البشري والأدوات الرقمية التي يجري استخدامها، وتحتاج إلى تطوير رسالة فاعلة لإقناع مجموعة المستهدفين.
في العادة.. أنْ يجري استهداف الناخبين بمنهجين اثنين يكون الأول جغرافياً، بتحديد من سيقترع لمرشح الحملة وفقاً لموقعه السكاني، بينما يتخذ النمط الآخر استهدافاً ديموغرافياً، بتقسيم الناخبين إلى شرائح فرعية تعتمد العمر والنوع والجنس ومستوى الدخل والتعليم، وطبيعة المهنة وغير ذلك، الأمر الذي يستدعي الدخول في عملية «تحليل الناخبين» بعدها، لفهم افراد المجوعات المستهدفة على وفق معطيات يتفق المختصون على تحديدها بأي من القضايا الرئيسة التي تكون معرض اهتمام الناخبين، وما هي مواقفهم من بيئتهم السياسية والاجتماعية.
وإنْ كانوا يثقون بالسلطات المحلية ويشعرون بتحسن الأوضاع، أم يميلون إلى التغيير، والوقوف على طبيعة القيم التي يمكن أنْ توحد الناخبين في الجمهور المستهدف، من قبيل الحماية الاجتماعية ولفرص الاقتصادية وغير ذلك، والاستيضاح عن الصفات التي يريد أنْ يراها الناخبون في قادتهم بعد الانتخابات.
إنَّ فراغ إدارات الحملات الانتخابية من جهد التخطيط للحملة وتحليل ناخبيها ينبغي أنْ يقود الى مرحلة تحديد الرسالة الإلكترونية التي ستنطلق بها الحملة إلى الجمهور المستهدف، وماذا ستقول الحملة لإقناعه وعلى وفق أية أشكال ومضامين رقمية، وأنْ تخبره بمبررات تنافس مرشحك للوصول إلى المنصب المحدد، ولماذا ينبغي أنْ يصوتوا له بدلاً عن منافسيه، وهذا يستدعي الوضع في الاعتبار ما يهم الناخب، ومن أين يحصل على معلوماته، وهل يثق بالأوعية الرقمية في هذا المضمار؟
إنَّ وضع رسالة الحملة الانتخابية يجب أنْ يركز على قائمة أولويات للناخبين، التي تشتمل في المجمل في توفير متطلبات تحاكي مجموعة من التساؤلات الرئيسة المرتبطة بمجريات يومياتهم في الحقيقة، ومنها كيف يعملون في وظائفهم وان كانوا يملكون نقوداً كافية للمعيشة أم لا، وكيف تجري أمورهم المتعلقة بشريكهم في الحياة، وكيف تجري أمور أطفالهم في المدرسة، وما هي ابرز اهتماماتهم، إلى جانب معرفة لمن سيقترعون اذا كانت الانتخابات ستجري غداً على سبيل المثال؟
وتكون الاجابات عن خطط الإجابة عن التساؤلات مهمة في صياغة رسالة الحملة الانتخابية التي تتطلب فاعليتها ان تكون قصيرة وبشكل جاذب ولافت للانتباه، إذ يكون للناخب الصبر القليل للإصغاء إلى الخطابات السياسية المطوّلة، وذات مصداقية ولا تتعارض مع خلفية مرشح الحملة، وان تكون مستهدفة للمستخدمين الذين ربما سيقترعون له، وهم يختلفون عن أولئك الذين سيصوتون لغيره، وان تكون مقنعة ومهمة للناخب تتوافق مع احتياجاته الواقعية، وان تتضمن التباين وبماذا يمتاز هذا المرشح عن المنافسين له في الدائرة نفسها.
الفاعلية المطلوبة
تجد الدراسات العربية المستمرة في نقاش الحملات الانتخابية الالكترونية – بوصفه المجال الجديد للممارسة الديمقراطيَّة – بأنَّ الأوعية الرقمية أصبحت أكثر وسيلة ممكنة لإثارة الجدل والنقاش الديمقراطي عن طريق اضافتها لأبعاد اخرى للاتصال مقارنة بالوسائل الاعلامية التقليدية، حيث تتميز تلك الاوعية بالطبيعة التفاعلية ناهيك عن صعوبة السيطرة والرقابة عليها، واتساع نطاق القاعدة الاجتماعية المستخدمة لها، وعدم تقيدها بالحدود الجغرافية والسياسية، الى جانب تحول الجمهور فيها من مجرد مستخدم مستهلك الى مشارك فاعل في صياغة مضامينها.
وفي العراق.. وتحت ضغط تطور الظاهرة الرقمية، صار ممكناً للحملات الانتخابية الإلكترونية ان تمارس دورها في التحضير لمزاج انتخابي معين، على وفق المعايير الأخلاقية والضوابط القانونية والقيم الاجتماعية، فيما لو تمت ادارتها بشكل منهجي غير عشوائي، ويعطي للدائرة الانتخابية المستهدفة خصوصيتها من دون إعمام القواعد على حساب التفصيل، الذي يكون غاية في الأهمية لأية حملة انتخابية يراد لها النجاح.
المصدر: صحيفة الصباح