يتحدث الصحافي علي عمر (45 سنة) عن مهنته التي يصفها بـ”مهنة الموت”، قائلاً: “لا أعرف كيف كنا نعمل وسط سيل المخاطر الكبرى. فالمفخخات كانت تملأ الشوارع وعليك أن تكون قرب مواقع الحدث، وكانت فتاوى القتل تلاحقنا وقوائم المطلوبة رؤوسهم تتوالى. مجرد البقاء في المدينة كان مخاطرة كبرى… ورفاقنا كانوا يتساقطون، لم نكن نعرف متى يحين دورنا وتخترق الرصاصات أجسادنا”.
ويضيف: “وصل الحال بنا ونحن في مقتبل أعمارنا إلى أن نكتب وصايانا فالموت كان أقرب إلينا من الحياة. القتلى لم يكونوا يحظون بمراسم دفن لائقة… بعض زملائنا كانت جثثهم تبقى لساعات مرمية على الأرصفة والشوارع دون أن يتم رفعها خوفاً من أن تكون مفخخة، كان التنظيم يحولها إلى كمائن ملغمة يتم تفجيرها عند اقتراب القوى الأمنية”.
يقول (د.م) إن سروة مثل آخرين، “خاضت في الحقل الملغوم للصحافة لأنه العمل الوحيد الذي كان متاحاً أمامها في تلك الفترة، فقد كانت الحياة مشلولة والوضع الاقتصادي سيئاً والعمل في المجال القانوني مستحيلاً لأن المحاكم كانت شبه متوقفة”.
يستدرك: “لكنها تعلقت بذلك العمل وأحبته، لذلك لم تتركه حين انهالت على الصحافيين وعليها التهديدات، ورفضت مغادرة المدنية كما فعل كثيرون حين كان السلاح يُرفع في كل مكان ويحصل القتل باسم المقاومة”.
يحاول (د.م) تفسير سبب اغتيال صحافية شابة لم تنتمِ إلى جهة سياسية ولم تتبنَّ خطاباً هجومياً: “لا أعتقد أنها قتلت بسبب موقف محدد. كانت الجماعات التكفيرية تقتل لإثبات وجودها وزرع الرعب، وكان قتل الصحافيين هدفاً سهلاً ومغرياً، لأن الخبر ينتشر بشكل واسع، هناك جماعات كانت ترى أن كل الصحافيين أعداؤها طالما أنهم لا يصفون المجموعات المقاتلة بالمجاهدين أو المقاومين أو لمجرد أنهم يتواصلون مع المسؤولين الحكوميين أو الأميركيين أو الكرد”.
الأجهزة الأمنية المتواطئة
بدت عمليات قتل الصحافيين مفضلة لدى الجماعات المسلحة لما تحظى به من تغطيات إعلامية واسعة وهو ما كانت تبحث عنه، وكانت قوائم الصحافيين “المطلوبة رؤوسهم”، تعلق على أبواب جوامع الموصل، ليتساقطوا بعدها واحداً بعد الآخر في وضح النهار أمام أنظار عناصر الأجهزة الأمنية.
يقول الصحافي جمال البدراني، “لم تكن الأجهزة الأمنية عاجزة عن حماية الصحافيين ممن ترد أسماؤهم في قوائم التصفية فحسب، بل كانت عاجزة حتى عن إلقاء القبض على المتهمين إن عرفوا، وتكتفي بتدوين معلومات بسيطة عن الواقعة”.
يضيف: “لم تتحرَّ حتى عن الأشخاص الذين كانوا يعلقون بأيديهم قوائم الموت وينشرون فتاوى التنظيمات في الجوامع. كان هناك استسهال لقتلهم أو تواطؤ على ذلك، لذلك كنا نخشى من حضور بعض اجتماعات الحكومة ومن تقارير مسؤوليها بقدر خشيتنا من الجماعات تلك”.
يقول صحافيٌ رفض ذكر اسمه، إن “إحدى قوائم استهداف الصحافيين التي نشرت في الموصل كانت نسخة طبق الأصل مأخوذة من قائمة حضور الصحافيين في أحد المؤتمرات الدورية لمحافظة نينوى. بعد فترة قصيرة تم اغتيال ثلاثة ممن وردت أسماؤهم في القائمة”.
يسأل الصحافي، ألم يكن تحقيق بسيط من الأجهزة الأمنية في كيفية تسرب القائمة كفيلاً بكشف الفاعلين؟
مع توالي الاغتيالات وحالة الرعب السائدة اضطر معظم الصحافيين إلى النزوح ليخسروا بذلك وظائفهم ومصدر رزق عائلاتهم، فيما قلص آخرون نشاطهم أو عملوا متخفين بأسماء مستعارة، لكن بمجرد تسرب أسمائهم كان يتم استهدافهم.
يقول الصحافي نوزت شمدين الذي غادر الموصل في آذار/ مارس 2014 وانتهى به المطاف لاجئاً في النرويج بعد تعرضه لثلاث محاولات تصفية، آخرها في شباط/ فبراير 2014، إن المؤسسات الإعلامية المحلية والأجنبية على حد سواء “تخلت عن الصحافيين المهجرين، وتعاملت بجحود شديد مع القتلى من الذين عملوا ضمن طواقمها”.
واتهم شمدين الحكومتين المركزية والمحلية بالتخلي عن ذوي الصحافيين “لم تكلف الأجهزة الأمنية نفسها عناء البحث والتحري، بعد كل حادث اغتيال التحقيقات كانت تجري على الورق فقط، ومعظم الجرائم التي اقترفت بحق الإعلاميين والصحافيين سُجلت ضد مجهولين، لكن في الحقيقة هم مجهولون يعرفهم الجميع”.
المجهول الذي يهابه الجميع
لم يلق الصحافيون في الموصل اهتماماً حقيقياً من الجهات المحلية والدولية، على رغم المخاطر الجمة التي أحاطت بهم “كانوا أهدافاً سهلة للمجموعات المسلحة من جهة والأجهزة الأمنية وقوات الاحتلال الأميركي من جهة أخرى، فضلاً عن فرق الاغتيالات التي تتبع جهات سياسية متنفذة” يقول الصحافي زياد السنجري الذي اضطر الى الهجرة إلى أوروبا، بعد تهديدات تلقاها بسبب عمله مراسلاً في الموصل لإحدى الوكالات الدولية.
يؤكد السنجري أن الصحافيين العاملين في مؤسسات دولية كان يتم تصيدهم واحداً تلو الآخر بسهولة وبتهم جاهزة أولها العمالة وآخرها التجسس، بخاصة أن الأجهزة الأمنية لم يكن لها أي دور في حماية الصحافيين “بينما القتلة كانوا يفلتون من العقاب بسهولة، على رغم كون بعضهم معروفاً ومحدداً بشكل لا يقبل الشك، فلا تحقيقات حقيقية تجرى في الحوادث”.
هكذا تم إغلاق كل قضايا اغتيال الصحافيين بعد إجراءات روتينية “لا أذكر أن أحداً اعتقل في كل قضايا الاغتيال والقتل والخطف التي حصلت”.
يقول المحامي سلام الصواف الذي توكل في قضايا عدد من الصحافيين، إن معظم قضايا الاغتيال تلك “لم يتم فيها أي بحث أو تحرٍ حقيقي، ولا حتى معاينة مكان الحادث أو سؤال ذوي الصحافيين عن تفاصيل الواقعة، وإذا ما كان الصحافي تعرض لتهديد من أشخاص محددين. ملفات التحقيق لم تكن سوى حبر على ورق”.
ويوضح أن “جميع القضايا كانت تغلق بالطريقة ذاتها، حتى لو كان المتورطون معروفين ويمكن الاستدلال عليهم بتحقيق وتحر بسيطين”.
ويشير الصواف إلى أن الإجراءات الروتينية المعقدة “أجبرت ذوي الضحايا على الدفع باتجاه تسجيل القضايا ضد مجهولين حتى لو كان الفاعلون معروفين، لأن اتهام شخص ما يبقي القضية مفتوحة ما يعني عدم إتمام أي إجراء قانوني لعائلة الشهيد من تقاعد أو تعويض أو حتى الحصول على شهادة الوفاة”.
يؤكد ذلك العقيد مازن الأحمد، مدير إعلام شرطة نينوى، قائلاً إن “جميع قضايا استهداف الصحافيين واغتيالهم في نينوى حتى عام 2014 سجلت ضد مجهولين، ولم يتم الاستدلال على أي مجرم فيها”.
ويرجع السبب في ذلك الى أن معظم عمليات الاغتيال كانت تنفذها “مجموعات إرهابية منظمة من دون أن يكون فيها فاعل واحد محدد”.
الخوف من ملاحقة القتلة
مع عدم جدية التحقيقات في قضايا الاغتيالات، أجبر ذوو الضحايا في الكثير من الأحيان على القبول بالأمر الواقع، في ظل غياب أي جهة يمكنهم اللجوء إليها، فحتى لو امتلكوا معلومات عمن استهدف أبناءهم فإنهم يتجنبون إخبار الأجهزة الأمنية بها خوفاً من تسرب المعلومات منها كونها مخترقة ما يهدد بملاحقة عائلات الصحافيين.
ذلك تحديداً ما دفع أم سروة عبد الوهاب الى الصمت وعدم التبليغ عن قاتل ابنتها الذي صادفته بعد فترة من حادث اغتيالها في إحدى سيارات النقل العام بمركز المدينة.
تقول: “عندما رأيته في الحافلة تعرفت إليه مباشرة، شعرت بحرقة في قلبي كادت تدفعني لمهاجمته وتمزيقه. أردت أن أصرخ، لكنني تراجعت سريعاً لأن ذلك سيشكل خطراً على حياة ولدي الوحيد المتبقي الذي لن يحميه أحد في ظل الفوضى الأمنية”.
تضيف وهي تتحسر “لا أنسى تلك الدقائق أبداً، رأيته أمامي ولم أتمكن من فعل شيء بل على العكس أنا من غضضت نظري عنه وكتمت حسرتي في قلبي”.
لم تبلغ أم سروة الشرطة وعائلتها رأت إنها “فعلت الصواب في ظل التحقيقات الشكلية وعدم التحري والبحث عن الأدلة وضعف تطبيق القانون”. يقول محمد شقيق الضحية “كيف كان لنا أن نثبت أنه هو القاتل. لا أدلة على ذلك والشرطة لا يعنيها البحث”.
ويضيف، “بعد الحادثة بقيت جثتها لنحو ساعتين ولم تأتِ القوات الأمنية إلى المكان، بعدها جاءت سيارة إسعاف لنقلها إلى الطب العدلي، وعند التحقيق لم يسألوا كيف قتلت؟ فقط كان السؤال عن الاسم والعمل والمهنة، وعندما قلنا صحافية، قال أحد ضباط الشرطة من دون تردد أو خجل: كيف تركتم ابنتكم تعمل في الصحافة؟ ماذا كنت تتوقعين من عملها؟”.
تقول أم سروة: “كيف أطمئن على حياة ولدي وحياتي والأجهزة الأمنية كانت تلومني على عمل ابنتي وتعد عملها في الصحافة أمراً تستحق عليه القتل؟”.
إذا كانت والدة سروة استشعرت خطراً غير مباشر دفعها للصمت، فإن الخطر كان مباشراً بالنسبة إلى بان العبيدي، زوجة الصحافي فراس المعاضيدي، إذ أجبرت على التنازل عن الدعوى ضد الشخص المتهم باغتيال زوجها.
قالت العبيدي: “القوات الأمنية اعتقلت شخصا يدعى عمار هويد، واعترف بقتل عدد كبير من الأشخاص من بينهم زوجي. ذهبت الى المحكمة بحماية من الشرطة وعندما كنت أسجل أقوالي عند قاضي التحقيق كان شخص ما يقوم بتصويري بالموبايل، عندها صرخت المحققة العدلية لا تصورها هي سوف تتنازل عن الدعوى”.
تابعت العبيدي بشيء من الأسى سرد رعب تلك الدقائق: “صرخت لحظتها لا أريد التنازل عن الدعوى، ما الذي يحدث؟ عندها قالت لي المحققة العدلية بصوت منخفض: الذي يقوم بتصويرك هو شقيق المتهم وإذا لم تتنازلي سوف يستهدفك وعائلتك ولن يحميك أحد من بطشهم… اسمعي نصيحتي وتنازلي فهو سوف يعدم بكل الأحوال لأنه متهم بقضايا أخرى”.
لاحقاً وتحت رعب الملاحقة، تنازلت العبيدي عن حقها وحق زوجها المغدور، “فعلت ذلك كمن تجرعت كأس سم، لكن لا حيلة لدي فإن كان شقيق الإرهابي يقوم بالتصوير داخل المحكمة من دون خوف فكيف أنجو من بطشهم؟”.
ضحايا بلا حقوق
ينص قانون حقوق الصحافيين رقم (21) لسنة 2011 في المادة 11/ أولاً، “يمنح ورثة كل من يستشهد من الصحفيين (من غير الموظفين) أثناء تأدية واجبه أو بسببه راتباً تقاعدياً مقداره (750) ألف دينار شهرياً عدا ما يمنح للشهداء الآخرين من الامتيازات”.
إلا أن معظم ذوي ضحايا الصحافة في الموصل لم يحصلوا على هذا الحق بحسب عائلات عشرة صحافيين مقتولين في الموصل تم التواصل معها.
عائلة سروة واحدة منها، إذ لم تحصل على أي تعويض أو امتياز أو راتب تقاعدي غير الذي صرفه مجلس المحافظة على أساس كونها من ضحايا الإرهاب، على رغم أن نقابة الصحافيين كانت أصدرت بطاقة هوية ذوي ضحايا الصحافة لوالدتها.
الأمر ذاته أكدته بان العبيدي “لم يتسلم ذوو ضحايا الصحافة في الموصل أي حق من حقوقهم ولا حتى الراتب التقاعدي الذي يستحقونه بموجب قانون حقوق الصحافيين، بل اقتصر على راتب حقوق ضحايا الإرهاب الذي تحصلنا عليه بشق الأنفس وبجهد شخصي”.
عومل الصحافيون الذين استهدفوا بنحو مباشر بسبب عملهم في كشف ونقل الحقائق معاملة ضحايا الإرهاب، ليحرموا بذلك من الكثير من الحقوق والامتيازات القانونية. يُحمل كثر ممن تم التواصل معهم من أفراد عائلات “شهداء الصحافة” نقابة الصحافيين مسؤولية ذلك لأنها كما يقولون “لم تقم بواجبها فاضطررنا إلى القبول بكونهم ضحايا إرهاب قتلوا مصادفة نتيجة تفجير أو اشتباك مسلح”.
نقابة بلا أثر
عمل الكثير من صحافيي نينوى وإعلامييها وعلى مدى سنوات طويلة دون أن يكونوا أعضاء في نقابة الصحافيين. ويصف كثر منهم النقابة التي تضم أكثر من 20 ألف عضو، بأنها “هيكل تنظيمي بلا دور ولا أثر”، مشيرين إلى غيابها الذي يصفونه بالمخجل عن “ملف اغتيال الصحافيين وحقوق عائلاتهم”.
ويتهم هؤلاء النقابة بمنح العضوية “على أساس المحسوبية ليستفيد منها أشخاص دخيلون”.
يقول الصحافي زياد السنجري إن “الكثير من الصحافيين لم يحصلوا على عضوية النقابة، في حين تم منحها لأشخاص لا يعملون فعليا في مجال الصحافة أو يعملون فنيين وسائقين أو حتى سعاة في المؤسسات الإعلامية”.
ويشير السنجري إلى أن النقابة في الوقت ذاته منحت العضوية لجميع العاملين في المؤسسات الإعلامية التابعة لأحزاب السلطة أو الميليشيات.
ويستطرد: “النقابة تحولت إلى مؤسسة شكلية تعمل لأهداف سياسية خاصة، ووصل الأمر في بعض الحالات إلى حد عدم الحصول على العضوية من دون تزكية حزبية أو توسط”، ويسأل، “كيف لهذه النقابة أن تدافع عن صحافيين يكشفون فساد السياسيين وانتهاكهم حقوق الإنسان؟”.
يقول “ياسر عبد الخالق ناصر” الذي قتل والده بعد استهداف عجلته بعبوة ناسفة في 27 أيلول/ سبتمبر 2007، “والدي كان عضو هيئة إدارية في نقابة الصحافيين، على رغم ذلك لم نحصل على أي من حقوقه بعد استشهاده، كل ما حصلنا عليه هو تقاعد شهداء الإرهاب”.
مع عدم قيام نقابة الصحافيين بواجبها عملت بان العبيدي، من خلال جمعيتها (الدفاع عن حقوق الصحافيين) على جمع ملفات ضحايا الصحافة في نينوى والتحرك من أجل حقوق ضحايا الإرهاب.
تقول: “النقابة ظلت متفرجة وحين قمت بالتحرك للحصول على تقاعد شهداء الإرهاب بعدما تأكدت من دائرة التقاعد العامة في بغداد بعدم وجود أي ملف مقدم باسم شهداء الصحافة، وجهت اللوم إلى”.
وتضيف: “نقيب الصحافيين اتهمني وقتها بأنني أضعت حقوق ذوي الشهداء لأن امتيازات شهداء الصحافة أكثر من شهداء الإرهاب، على رغم أنني قمت بجمع ممثلي عائلات الشهداء في الموصل بينهم عائلتا سروة وعبد الخالق ناصر وآخرون وأعددت ملفات متكاملة بالمعلومات الأساسية عن كل حالة مع صور لكل شهيد وقدمت الملفات جميعها للنقابة”.
كما تتهم العبيدي النقابة بعدم إدراج أسماء ضحايا الصحافة في الموصل ضمن قوائم الصحفيين الذين خصصت لهم قطع أراض سكنية. فيما يشير صحافيون إلى أن النقابة لا تعترف إلا بالصحافيين الذين ينتمون إليها وهؤلاء لا يمثلون كل الصحافيين.
لكن سناء النقاش، مسؤولة قسم الشهداء والجرحى في نقابة الصحافيين العراقيين، تنفي وجود تقصير من النقابة، وتقول إن هناك لبساً في الموضوع، فالقانون يحدد التقاعد لمن هم غير موظفين حصراً فلو كان الصحفي الشهيد موظفاً سيحصل على راتب تقاعدي من الوظيفة “لا يمكن أن يحصل على راتبين”.
وتوضح أن “قانون حماية الصحافيين صدر قبل أن يصدر قانون تعويض ضحايا الإرهاب، وبعد صدور قانون ضحايا الإرهاب وتحديده راتباً تقاعدياً أكبر من الذي خصص في قانون حقوق الصحافيين، عملنا على تحويل جميع ملفات ضحايا الصحافة إلى ضحايا إرهاب ليحصلوا على الراتب الأفضل”.
وتؤكد النقاش أن “قرابة 90 في المئة من ضحايا الصحافة حصلوا على راتب تقاعدي” وأن النقابة تبذل جهدها من أجل تعويض ذويهم.
واستدركت، “نعم الوضع في الموصل مختلف عن بقية المدن بخاصة بالنسبة إلى الضحايا الصحافينن بعد 2014، لأن ملفاتهم تحتاج الى ورقة تدقيق أمني لتبرئة الذمة، وهذا الأمر يأخذ وقتاً طويلاً بسبب كثرة أعداد القتلى والاغتيالات في الموصل، المسجل فيها ثاني أعلى نسبة في العراق بعد بغداد”.
الهجرة أو الموت
على رغم استمرار العنف الموجه ضد الصحافيين، اغتيالاً وتهديداً وتكميماً للأفواه، وقفت المنظمات والجمعيات المتخصصة بالدفاع عن الصحافيين وحرية الصحافة عاجزة عن فعل شيء، بسبب تشتت جهودها وضعف تأثيرها، فاقتصر عملها على بيانات استنكار وإدانة لعمليات القتل والملاحقة، والمطالبة بالكشف عن القتلة وعدم إفلاتهم من العقاب.
وفشلت تلك المنظمات طوال أعوام في القيام بتوثيق دقيق لعمليات القتل والاستهداف بحق الصحافيين، الذين تحولوا إلى مجرد أرقام بلا حياة في بياناتها، فيما أفلت المتورطون من العقاب.
في ظل ذلك الواقع، استمر العنف الموجه ضد الصحافيين والمدونين، وتصاعد في 2019 و2020 مع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 واستمرت لنحو عام، ليشمل تهديد مؤسسات كاملة طاولها الإحراق والغلق في وضح النهار، وعلى مرأى القوات الأمنية التي لم تمنع تلك العمليات وتركت المتورطين من دون محاسبة، على رغم أن الكاميرات رصدت وجوههم ووثقت تصريحاتهم التي أظهرت انتماءهم لمليشيات معروفة لها مقرات رسمية.
وسط اتساع دائرة الاستهداف وتساقط صحافيين، اضطر المئات منهم إلى تغيير مناطق سكنهم فيما هاجر العشرات إلى خارج البلاد.
يقول صحافي، رفض الكشف عن اسمه خوفاً من الملاحقة: “غادرت الموصل بعد أن تعرضت المؤسسة التي أعمل فيها للتهديد، وتم استهداف مقرها في بغداد. أنا أفكر الآن بمغادرة العراق نهائياً، فلا سبيل آخر لضمان حياتنا”.
يضيف: “المشهد لم يتغير كثيراً عما كان عليه قبل عقد من الزمن حين قتلت سروة وقتل المعاضيدي وأحمد شوكت. كان الصحافي يهدد ويقتل لمجرد عمله في الدولة أو تواصله مع مسؤولين حكوميين أو مع قوات التحالف، واليوم يكفي أن يتهمك أحدهم في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي بالعمالة لسفارة أو لدولة ما أو حزب حتى يتم تبرير تصفيتك”.
الموصل التي تخلصت من سطوة الجماعات الدينية السلفية المتشددة بين 2003 – 2017، واقعة اليوم تحت سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي أو كما يسميها البعض “وريثة داعش”، كونها تفرض نفسها كحاكمة في ساحة تتراخى فيها قبضة الجيش النظامي والشرطة، ويتكرر المشهد ذاته “فلا مجال لانتقادها”، كما يقول صحافيون تم التواصل معهم.
ومع أن لا حوادث اعتداء سجلت ضد صحافيين، إلا أنهم يتلقون تهديدات مباشرة وغير مباشرة من عناصر قريبين من الميليشيات أو يدغون الانتماء لها، عندما ينشرون مواد تعنيها أو تشير إلى ممارسات غير قانونية تقوم بها.
هذا ما يدفع صحافيين كثراً كانوا قد هربوا طوال سنوات من “داعش” وعادوا إلى مزاولة عملهم مجدداً في الموصل، إلى العودة من حيث أتوا، فيما فضل آخرون العمل بصمت وبأسماء مستعارة مستفيدين من دروس سابقة كان معظمها مميتاً.
أنجز هذا التحقيق بدعم من مركز الخليج لحقوق الإنسان في إطار مشروع التحقيق في الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
المصدر: درج