لا يختلف أثنان على ان الولايات المتحدة الأميركية هي الرائدة عالميا في المجال الاكاديمي والبحث العلمي. والمؤسسات الاكاديمية الأميركية متصدرة عالميا قوائم أفضل الجامعات بالعالم. لكن من أي ياتي ذلك؟ وما السبب؟ ببساطة تتمع المؤسسات الاكاديمية الأميركية بأستقلالية عالية جداً وحُرية عالية في إدارة مؤسساتها الاكاديمية. هذه الحرية تبدأ من مستوى الموظف البسيط المكلف بعمل ما الى حرية الاستاذ الجامعي في أدارته لدرسه ومخرجاته، إلى الاستقلالية في ادارة الجامعة بعيداً عن الادارة الحكومية والمؤسسات السياسية. وأقرب الامثلة لنا هو ما حصل من وقوف العملاقين جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس التقني والعديد من الجامعات التي انضوت معهم بالضد من قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وادارته بمنع الطلبة الاجانب من دخول الولايات المتحدة الأميركية تحت عنوان التعليم الالكتروني عن بعد بسبب جائحة كورونا. وبالرغم أنه واقعا ان الطلبة يدرسون الكترونيا من أي بقعة بالعالم وليسوا في حاجة إلى التواجد الفعلي داخل الجامعة التي هي شبه مغلقة بسبب وباء كورونا، لكن المؤسسات الاكاديمية الأميركية أعتبرت القرار الرئاسي الأميركي تدخل في أستقلاليتها وحريتها والتي تعتبر خطوط حمراء مقدسة ضمن منظومة القيم الاخلاقية التي تضمن لها رصانتها وسمعتها عالميا. وبالفعل تمكنت المؤسسات الاكاديمية الأميركية من خلال القضاء الأميركي المستقل من ايقاف القرار الرئاسي وبكل سهولة ان صح التعبير. عندما تلقي نظرة على آلية إدارة الدرس ومخرجاته في الجامعات الأميركية تجد ان الاستاذ الجامعي يضع المنهاج، والذي هو عادة خليط ما بينه وبين أدارة القسم، والتي عادة تتدخل معه في توفير كافة التعليمات الإدارية والقانونية التي يجب ان يقوم بالاعلان عنها. حيث يمثل المنهاج عقداً ما بين التدريسي وما بين الطالب على اساسه يقوم الطالب بالانضمام إلى هذا الدرس. ولا يمكن التعديل على هذا العقد ” المنهاج” الا بموافقة الطرفين التدريسي والطالب. التدريسي له الحرية المطلقة في توزيع الدرجات ما بين الواجبات المنزلية والاداء في الصف والاختبارات إلى الاختبار النهائي ضمن المنهاج المُعلن. وهو من يقوم بالتدريس وتقييم اداء الطلبة والواجبات التي تناط للطلبة وكذلك الاختبارات حتى أنه هو من يقوم باجراء الاختبار النهائي لطلبته بنفسه أو بمساعدة مساعديه من طلبة الدراسات العليا في حالة توفرهم. وبعد ذلك يقوم برفع الدرجات النهائية إلى نظام الجامعة الكترونيا مع نسخة إلى إدارة القسم للعلم. وهنا لن تجد اي تدخل من إدارة القسم او الكلية او الجامعة في سير الدرس خلال الفصل الدراسي أو الدرجات النهائية التي هي بجميع الاحوال لن يستطيع أي شخص مهما كانت سلطته وموقعه تغييرها الا قيام نفس التدريسي بذلك. يستثنى من ذلك في حالة وجود شكوى من طالب يتم التحقيق بها أو وجود نسبة رسوب عالية جدا أكثر من النصف تستعدي فتح تحقيق أستقصائي لمعرفة الأسباب. حتى الطالب في المؤسسات الاكاديمية الأميركية تجده يمتلك قدرعالي من الحرية. فهو يختار الدرس والمدرس من بين المتوفر المُعلن لكي ينضم لدراسته. وله الحرية خلال فترة محددة بترك الدرس والتحول إلى درس آخر مع استاذ جامعي اخر. والطالب حرُ في أبداء رأيه وتقييمه لمٌدرسه ولأدارة القسم والكلية. ولهذا تجد أن الطالب يطالب المدرس بتطوير أداءه لكي يتعلم أفضل ويطالب القسم او الكلية بالخدمات المرفقة الواجب توفيرها لكي يتعلم أفضل. وتجد الطلبة ينضمون إلى ورش ومجاميع تهدف إلى تنمية الحرية و التقييم وترعى الجامعات هذه الامور وتنمي هذه الخصال لدى الطلبة لكي يصبحوا على قدر أعلى من المسؤولية وأنعكاس ذلك على تطوير قطاعات العمل والحياة. الموظف والاستاذ الجامعي بالأخص في الجامعات الأميركية ليس لديهم نظام حضور وانصراف باستخدام البصمة أو التوقيع صباحا ومساء. ببساطة الجميع أحرار وحسب طبيعة أعمالهم. فمثلا أن كنت موظف فأنت لديك عمل يتطب تواجدك خلال ساعات معينة وعليه انت تتواجد بنفسك وتؤدي واجبك. وحتى أن لم تلتزم حرفيا بالتوقيتات لكنك تؤدي واجبك على أكمل وجه فلا توجد إشكالية. أما الاستاذ الجامعي فهو دائم الحركة ما بين دروسه المناطه به والمشاريع البحثية مع طلبته وما بين الالتزامات الاخرى من نشاطات تتعلق بحضور المؤتمرات والورش والاجتماعات العلمية والخاصة بتمويل المشاريع البحثية. فلن يأتي أحد ليقول هل أن الدكتور فلاني متواجد اليوم في الجامعة ام لا؟ بل السؤال يكون أنك لم تقم بتأدية التدريس لطلابك بصورة ممتازة وقد أتوا لأدارة القسم يستفسرون ونحن كذلك لانه لم يحصل بينكم تواصل؟ أو يكون السؤال ما السبب أن المشاريع العلمية لديك انخفضت بصورة كبيرة والآن انت تطلب المساعدة المالية لأجل دعم طلبة الدراسات العليا لديك؟ ولذلك فأنك تجد الاستاذ الجامعي قد يكون متواجد مساء أو في العطلة وليس متواجد نهارا في يوم دراسي أو يوم عمل أعتيادي. والسؤال في حالة وجود تقصير ورد الفعل هو تقديم الدعم بكافة الموارد المتاحة في القسم والكلية والجامعة. بخلاصة الجميع لديهم حريتهم بالعمل والتحرك ما دام يوجد هنالك انجاز ولا يوجد تقصير، والجميع محل ثقة ولا يتم التشكيك بهم سواء أكان الموظف او الاستاذ الجامعي، ولا يتم التدخل بعمل الاخرين ومراقبة من أتى ومن ذهب. على هذه الأسس بنيت منظومة أخلاقية رصينة وتزرع بذراتها وتبنى اسسها لدى الطلبة لكي يكملوا الطريق ويطوروا ويتطورا وبالتالي فأن الجامعة والمجتمع والعمل والبلد يتطور ويتقدم. هنالك أدوات لتقييم الاداء ورصد السلبيات والإيجابيات، وهنالك أدوات للتطوير وتجاوز العوائق التي تواجه الافراد. لكن جميع هذه الادوات لا تستدعي أن تكون نظاما مراقبيا مبني على أسس التفكير الامني والعسكري. هذا النوع من الحرية والاستقلالية تعطي جميع العاملين شعور العالي بالمسؤؤلية وأهميتهم في مجال عملهم وتمنحهم مساحة واسعة من الابداع والابتكار. ولكن حين يكون هنالك نظاما مراقبيا من حضور وانصراف وتدخل بشؤون عمل الموظف والاستاذ الجامعي وتدريسه والنتائج التي يحصل عليها الطلبة فأننا بذلك نخلق جواً سلبياً ونرسل العديد من الرسائل السلبية لهؤلاء العاملين وللعالم أجمع، توحي بعدم الثقة بالموظف والاستاذ الجامعي ضمن هذه المؤسسة الاكاديمية والتشكيك في أداءهم وصدقهم وبالتالي فلن تصل هذه المؤسسات الاكاديمية إلى الرصانة العلمية المنشودة الحقيقية. ببساطة، كان هذا أحد أهم أسرار وأعمد القوة التي تتمتع بها المؤسسات الاكاديمية الأميركية. وما تجده في بعض افلام هوليوود عن اشخاص قادوا تحركات لأجل التغيير هي نتاج هذه البذرات التي تزرعها المؤسسات الاكاديمية في داخل الاجيال الجديدة.
تنويه: هذه التدوينة ضمن قسم (التدوينات الحرة) وتعبّر التدوينة عن وجهة نظر المدون/ة وليس بالضرورة عن رأي شبكة أنسم